ثريا… سيدة المالوف والطرب الأصيل
هي المطربة التي تفتحت براعمها الفنية مبكراً، فاحترفت الغناء ونجحت، وأبدعت في أداء المالوف محافظةً على التراث القسنطيني الأصيل، لتتربع على عرش هذا الطابع الغنائي وتكون خير سفيرة لفن المالوف على مدار السنوات.
بأحد منازل شارع بابا حنيني، في السويقة بمدينة قسنطينة ولدت ثريا بن دريس يوم 15 جانفي سنة 1931. نشأت وسط أسرة محافظة متشبعة بالتقاليد الجزائرية والقسنطينية خاصة. اِلتحقت بالمدرسة الإبتدائية منذ الخامسة من عمرها، كما كانت تتلقى تعليماً قرآنياً بزاوية سيدي بوعنابة.
ومنذ طفولتها كانت تمارس الطرز، وتهوى الاستماع لعمالقة الطرب العربي أمثال فريد الأطرش، محمد عبد الوهاب، اسمهان وأم كلثوم. وتذوقت من فنهم الأصيل، مع الانجذاب شيئاً فشيئاً إلى ميدان الغناء والموسيقى، بتقليد هذه الأصوات العربية الكبيرة والساطع نجمها آنذاك.
فانضمت إلى الجمعية الفنية “طلوع الفجر” في مدينة قسنطينة سنة 1944 وعمرها 13 سنة، ورافقت الحاج محمد الطاهر الفرڨاني ابن مدينتها وعميد فن المالوف الذي مد لها يد العون خلال بداياتها في عالم الكتابة والتلحين، فتعلمت أصول الموسيقى، وكانت جد متأثرة بغناء الفنانة فضيلة الدزيرية.
ثم دخلت الإذاعة سنة 1947 وأدت أغنية لمحمد عبد الوهاب بصوت رخيم صافي فتح لها الأبواب نحو عالم الطرب، إلا أن والدها رفض الفكرة رفضاً قاطعاً ومنعها من مواصلة هذا الدرب، فهاجرت ثريا إلى تونس سنة 1951 ماكثة عند شقيقتها، وهناك وجدت لنفسها جوّاً ملائماً لإبراز قدراتها الصوتية وموهبتها الفذة في الغناء، فانضمت إلى جمعية الراشدية واحتكت بكبار الفنانين في تونس أمثال الهادي الجويني، صالح المهدي، والفنانة عليا.
ثم شاركت في جولة فنية بفرنسا أين قامت بتسجيل أول أسطوانة لها سنة 1952 بعنوان “ما احلى قدك” من تأليف محمد الجاموسي. ثم تلتها أغنية “يا لالة قولو لامي” التي كتبها ولحنها الحبيب عبد الكريم سنة 1953. كما شاءت الأقدار أن تلتقي بالملحن الكبير عمراوي ميسوم سنة 1959 وتعاملت معه، فقد زودها بأغاني فريدة من نوعها كللت لها بالنجاح.
وفي هذه الفترة انضمت ثريا إلى الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني رفقة عدة فنانين جزائريين، وشاركت معهم في جولة فنية بمدينة موسكو من أجل العمل على إبراز صوت الثورة ورفع معنويات الشعب في تلك المرحلة الحاسمة من تاريخ الجزائر. فقد كانت من أولى الفنانات اللواتي شاركن في الثورة التحريرية وفي المظاهرات بالخارج، فاتخذت من الكلمة واللحن سلاحاً من أجل الحرية ولتوعية الشعب وتمرير رسائل وطنية سواء في الجزائر أو تونس أو باريس… وكانت تخيط الأعلام وتحمل الوثائق السرية طيلة هذه الفترة.
الأمر الذي تعرضت من أجله لويلات الاحتجاز من طرف المخابرات الفرنسية لما ألقي عليها القبض للتحقيق معها هي رفقة مصطفى كاتب، سيدعلي كويرات، وباهية فراح.
رغم ذلك، كانت تنتقل خلال هذه الفترة بين بلدان أوروبا في جولات فنية مرددة روائع تتغنى بحب الجزائر والحرية منها أغنية “تعيش سعيد يا ولد الشهيد” و”ما ندي غير ولد بلادي”، “الجزائر حرة”… وكانت تقدم مداخيلها لأبناء الشهداء.
بعد الإستقلال، واصلت إبداعها في الطرب وكانت سفيرة للتراث الجزائري بلباسها التقليدي الأصيل المتمثل في القندورة القسنطينية، وخلدت اسمها بكونها أول سيدة تؤدي رسمياً على المسرح أغنية المالوف التي جابت بها مختلف البلدان الأوروبية مثل السويد، هولندا، بلجيكا، فرنسا، إيطاليا… ودول الوطن العربي: مصر، تونس والمغرب… كما أنها استقرت لسنوات طويلة بالقاهرة وحاولت نقل التراث الجزائري إلى الخارج، وقد نجحت إلى حد كبير في ذلك.
تعاملت مع المؤلف الحبيب حشلاف الذي زودها برائعة “مدينة قسنطينة” و “عيوني ما شافت” سنة 1963.
كما أهداها محبوب باتي أغنية “علاش يا ناري” وحققت بها صدى واسعاً آنذاك. كما احتكت بتيسير عقلة وتعاملت مع دحمان الحراشي في أغنية “غاب عليّ حبيب قلبي” و”اللي يزرع الريح”.
وكانت لها الفرصة في التقاء عدة ملحنين عرب والتعامل معهم وعلى رأسهم بليغ حمدي الذي لحن لها أغنية “غلامة”. وتلتها أغاني أخرى ناجحة في طابع المالوف، نذكر منها رائعة “ما عندي زلة”، “عاشق ممحون”، “يا باهي الجمال”، “وين نباتو”، “فارقوني”… وغيرها.
كما كانت للفنانة ثريا بصمات مميزة في فن التمثيل السينمائي، عندما شاركت في فيلم “Fortune carrée” إلى جانب كل من Jean Marais و Pedro Armandarise . وفي فيلم “الإهمال” سنة 1972.
غادرت السيدة ثريا الجزائر مكرهة، بسبب معاناتها من التهميش، ومكثت بالخارج ثلاثين سنة كاملة، لتعود عام 2003 بدعوة من وزارة الثقافة لإحياء حفلات متتالية في مختلف ربوع الوطن. وقد تم تكريمها من طرف الجمعيات الفنية في مختلف التظاهرات والمهرجانات، كما أنها قد حظيت بتكريمات أخرى خارج الجزائر في باريس والقاهرة.
ولا شك أن السيدة ثريا قد استحقت كل هذه التكريمات والجوائز لكونها عميدة المطربات الجزائريات وسلطانة فن المالوف لأزيد من سبعة عقود، في مسيرة فنية طويلة وثرية تتجلى فيها روح الأصالة والوطنية وجمال التراث الجزائري… تلخصها في رسالة الفن الأصيل.