أخبار

مريم وفاء … المعذرة …لم نودعك بما يليق !!

كما تذوي الأزهار اليانعة بعد رحيل مواسم الإخضرار ؛ و تسافر الطيور المهاجرة حين تضيق بها الاجواء ويغيب عنها الأمان ؛ رحلت عنا الفنانة القديرة مريم وفاء يوم الأربعاء 12 افريل 2023 ؛ في بيتها الصغير المتواضع في مدينة الرغاية بالجزائر العاصمة .

رحلت في صمت كما عاشت سنواتها الاخيرة في صمت ؛ و عزاؤها وهي في وحدتها القاسية و شعورها بتخلي الأحبة عنها و المقربين ؛ أن الله استجاب لدعائها ؛وها هي تموت في العشر الأواخر من الشهر الكريم ؛ في ستر و كرامة رغم ظروفها الصعبة التي كانت تتجرع غصاتها كل يوم !! …
لقد كان رحيلها المفاجىء صفعة على خد كل من ينتمي إلى هذا المشهد الثقافي و الفني و الإعلامي المصاب بداء الخيانة والنكران ؛ فأي رثاء تُـراه يصحح الخطأ الشنيع ؛ و أي كلمات تأبين ترمم ما انكسر ؟!؟ ..
كانت مريم وفاء و اسمها الحقيقي مريم بن هنية تعيش في سنواتها الاخيرة أصعب ما يمكن ان يحياه الفنان : التغييب و التهميش ؛ فاتخذت من عزلتها ملاذا ومن صمتها رسالة تركتها بعد وفاتها …!!
كانت صاحبة الروائع تعاني اتعاب السكري ؛ و القلب ؛ و آلام المعدة لم تفارق جسدها الذي يحمل داخله نفسا عزيزة مكابرة ..حتى انها قالت لمن استشارها بنشر نداء لها صوتا وصورة ؛ تستنجد فيه و تستغيث طالبة العون من وزارة الثقافة :” دعوني …لا احب ان اظهر ضعيفة ..ارجوكم احب ان اموت مستورة !!” …
قبل شهر رمضان المعظم بأقل من يوم واحد ؛ نشرت صفحة في الفيسبوك اسمها” الرغاية على المباشر ” ؛ نداء لمساعدتها دون علمها ؛ و اتضح ان المرأة التي غنت للوطن و الانسان ؛ كانت تحيا في فقر مدقع ووضعية اجتماعية صعبة ؛ حتى أن جيرانها انتبهوا إلى غيابها اياما قبل شهر رمضان ؛ فطرقوا بابها فلم تجبهم ؛ فاضطروا إلى كسره ليجدوها في حالة صحية ذرفوا لها دموعهم ؛ و حاولوا معها مساعدتها بالأكل و المشرب و غيرها من الحاجيات … !!
قلت لابنة حومتها التي اتصلت بها عبر حسابها في فيسبوك : ” هل يعقل هذا ؟!! ” … فقالت ” و أكثر … طاطا مريم كانت زاهدة ولم تتعلم الشكوى …صابرة رغم وحدتها و آلامها … !! ” …
ثم اردفت الفتاة :” تعرف …لو لم اتصل شخصيا بصفحة الرغاية في فيسبوك واخبرهم بوفاتها …ما كان ليسمع برحيلها احد …حتى ابنها الوحيد محمد كان متزوجا بعيدا عنها… كان تحت الصدمة وهو يودع والدته التي ربته لوحدها بعد طلاقها …” .
في يوم الاثنين 11 جوان 1954 و بحي طاڨارا بالعاصمة ولدت مريم بن هنية التي اختار لها الفنان المرحوم لمين بشيشي اسم مريم وفاء . والداها عبدالله بن هنية و فاطمة بوعزيز ينحدران من منطقة سيدي هجرس بولاية المسيلة وكثيرا ما رددت مريم اعتزازها بأصولها من عاصمة الحضنة .
تنقلت مريم بين طاڨارا و بيرخادم و بلكور و الرغاية … وواجهت الصعوبات الكثيرة قبل ان تعتلي منصة الحان وشباب وتغني..ليبزغ نجمها في سماء الفن الجزائري ؛ مطربة أصيلة تميزت بأنها غنت جميع طبوع الغناء الجزائري ( البدوي الصحراوي الحوزي الشعبي الاندلسي النايلي السطايفي…) كما ابدعت في غناء الطرب الشرقي حيث تعلقت منذ صباها بعمالقة الفن العربي كاسمهان و أم كلثوم و محمد عبدالوهاب و سيد درويش ..و قد ورثت هذا الميل إلى الطرب الشرقي عن والدها الذي تردد في البداية في فكرة ولوجها عالم الفن ؛ لكنه اقتنع في الأخير بأن ابنته تتنفس الطرب و تعشق انغامه وتحيا على أمل ان تصبح فنانة ؛ فالتحقت بالفرقة الموسيقية للإذاعة ؛ و هناك تعرفت على كثير من الأسماء الفنية المعروفة لعل أهمها الملحن المرحوم معطي بشير الذي وجهها و ساعدها كثيرا ولحن كثيرا من اغانيها وقد غنت لعدد من الشعراء منهم ابو القاسم خمار و سليمان جوادي و عمر البرناوي رحمه الله . وكانت في فرقة الإذاعة قد تعرفت على المطربة المرحومة ثلجة فصارت رفيقة دربها و سرعان ما انسجمتا فصارتا نجمتين في سماء الفن الجزائري الأصيل …
من فرط محبتها للفن ؛ نزلت من حومتها نحو حي باب الواد ؛ وراحت تفتش رفقة قريبتها عن بيت الملحن معطي بشير ؛ و بعد جهد جهيد وصلت الى داره في ذلك الحي الشعبي و طرقت الباب وهي في حالة ارتباك و لهفة و خوف و خجل … وما إن فتح الباب حتى استقبلها الملحن القدير بمحبة الأب و حرص الأستاذ الذي قبض لحظتها على حنجرة نادرة …بل كانت عصفورة نادرة تزور بيته دون موعد مسبق ؛ لترفرف بجناحيها فيه ؛ وتقول له بكل وداعة الطفلة المراهقة التي لم تصل العشرين ” أريد ان اغني !!”
لم يتردد معطي بشير في تلك اللحظة و هم إلى هاتفه الثابت يتصل بالإذاعة الوطنية ؛ و يمنح السماعة لضيفته الخفيفة الظل ان تغني لمن اتصل به …كانت أول مرة تغني في حضرة فنان …هو الفنان الذي سيصبح من تلك اللحظة مكتشفها و ملحنها …
دخلت مريم عالم الفن عبر الاذاعة الوطنية تألقت و شاركت في حفلات خارج الوطن ؛ و اصبح جمهورها يبحث عن اغانيها التي صنعت مجدها : جيناكم زيار ؛ يا حميم ؛ اللي نحبو ؛ تصوري اماه ؛ …الخ و شاركت في مسرحية ” عويشة و الحراز ” للمخرجة فوزية آيت الحاج حيث غنت من ألحان المرحوم محمد بوليفة .كما شاركت في فيلم كوميدي موسيقي الى جانب الفنان محمد حلمي رحمه الله ؛ و غنت ” ديو ” الى جانب نوري كوفي ؛ و المرحومة صليحة .
قبل 9 سنوات تقريبا سجلت معها الصحفية آسيا طالبي برنانجا تلفزيونيا ؛ من 65 دقيقة ؛ كانت تتحدث فيه بتفاؤل و حب و أمل
و طافت مع الصحفية عبر أهم محطات حياتها ؛ و دعا الموسيقار كمال معطي السلطات آنذاك إلى مساعدتها و التكفل بوضعيتها الصعبة . ولكن من غنت ” الحب راه صعيب قاهر ما يرحم ” كانت جنبا الى جنب تحيا سنواتها الاخيرة مع ما هو أصعب : التهميش و النسيان … وضع قاهر لم يرحم قلبها النبيل و لم يأبه بأحلامها الجميلة و لم يشفق على روحها الطيبة فأمعن في إيلامها فنزفت جراحاتها العميقة فاستسلمت لوحدتها و فجيعتها في أصحابها و أحبابها و رحلت في صمت رهيب !!
في المقبرة الجديدة ” جبانة بن سعيدان ” ببلدية الرغاية ؛ ترقد مريم وفاء مطمئنة بين الأموات … بعد أن خذلها الأحياء ؛ و تنكر لجميلها المشهد الفني … وهناك ؛ في العالم الأبدي ؛ ستلتقي بالرائعين الرائعات : سلوى ؛ ثلجة ؛ صليحة ؛ وردة ؛ خليفي ؛ حدة ؛ درياسة ؛ معطي ؛ بوليفة ؛ وهبي ؛ و آخرين ؛ ستقول لهم : لم اكن استثناء … في وطن اصبح التهميش فيه علامة مسجلة !!
رحم الله مريم … عاشت وفية للكلمة الأصيلة و الفن النظيف …
و معذرة يا روحها … لم نكن في مستوى وداعك بما يليق !!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق